باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت 2 يونيه سنة 2001 الموافق العاشر من ربيع الأول سنة 1422هـ .
برئاسة السيد المستشار / محمد ولى الدين جلال رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين / حمدى محمد على وعبد الرحمن نصير والدكتور عبد المجيد فياض وماهر البحيرى ومحمد على سيف الدين وعدلي محمود منصور
وحضور السيد المستشار/محمد خيرى طه عبد المطلب النجار رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد / ناصر امام محمد حسن أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
فى القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 114 لسنة 21 قضائية دستورية
المقامة من
السيد / السعيد عيد طه نور
ضد
1 - السيد رئيس الجمهورية
2 - السيد وزير العدل
3 - السيد رئيس مجلس الشعب
4 - السيد النائب العام
الإجراءات
بتاريخ الثانى والعشرين من يونيو سنة 1999 أودع المدعى قلم كتاب المحكمة صحيفة الدعوى الماثلة طالباً الحكم بعدم دستورية نص المادة (48) من قانون العقوبات.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى .
وبعد تحضير الدعوى ، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونُظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة ، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة .
حيث إن الوقائع - على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل فى أن النيابة العامة أحالت المدعى إلى محكمة جنايات طنطا، متهمة إياه بأنه - بدائرة مركز زفتى محافظة الغربية - أحرز بغير ترخيص سلاحاً، واتفق مع آخر على ارتكاب جنحة سرقة مرتبطة بجناية ارتكبها الأخير، وأثناء نظر الدعوى دفع المدعى بعدم دستورية نص المادة (48) من قانون العقوبات، فقدرت محكمة الموضوع جدية هذا الدفع وصرحت له برفع الدعوى الدستورية فأقام الدعوى الماثلة .
وحيث إن المادة (48) من قانون العقوبات يجرى نصها كالآتى :
فقرة أولى يوجد اتفاق جنائى كلما اتحد شخصان فأكثر على ارتكاب جناية أو جنحة ما أوعلى الأعمال المجهِّزة أو المسهِّلة لارتكابها، ويعتبر الاتفاق جنائياً سواء أكان الغرض منه جائزاً أم لا إذا كان ارتكاب الجنايات أو الجنح من الوسائل التى لوحظت فى الوصول إليه.
فقرة ثانية وكل من اشترك فى اتفاق جنائى سواء كان الغرض منه ارتكاب الجنايات أو اتخاذها وسيلة للوصول إلى الغرض المقصود منه يعاقب لمجرد اشتراكه بالسجن. فإذا كان الغرض من الاتفاق ارتكاب الجنح أو اتخاذها وسيلة للوصول إلى الغرض المقصود منه يعاقب المشترك فيه بالحبس.
فقرة ثالثة وكل من حرض على اتفاق جنائى من هذا القبيل أو تداخل فى إدارة حركته يعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة فى الحالة الأولى المنصوص عليها فى الفقرة السابقة وبالسجن فى الحالة الثانية .
فقرة رابعة ومع ذلك إذا لم يكن الغرض من الاتفاق إلا ارتكاب جناية أو جنحة معينة عقوبتها أخف مما نصت عليه الفقرات السابقة فلا توقع عقوبة أشد مما نص عليه القانون لتلك الجناية أو الجنحة .
فقرة خامسة ويعفى من العقوبات المقررة فى هذه المادة كل من بادر من الجناة بإخبار الحكومة بوجود اتفاق جنائى ، وبمن اشتركوا فيه قبل وقوع أية جناية أو جنحة ، وقبل بحث وتفتيش الحكومة عن أولئك الجناة ، فإذا حصل الإخبار بعد البحث والتفتيش تعين أن يوصل الإخبار فعلاً إلى ضبط الجناة الأخرين.
وحيث إن المدعى ينعى على نص هذه المادة عدم بيانه للركن المادى للجريمة ، ذلك أن الركن المادى هو سلوك أو نشاط خارجى ، فلا جريمة بغير فعل أو ترك، ولا يجوز للمشرع الجنائى أن يعاقب على مجرد الأفكار والنوايا، باعتبار أن أوامر القانون ونواهيه لا تنتهك بالنية وحدها، وإنما بالأفعال التى تصدر عن إرادة آثمة ؛ فضلاً عن أن النص جاءت صياغته واسعة يمكن تحميلها بأكثر من معنى وتتعدد تأويلاتها إذ ترك تحديد الأعمال المجهزة والمسهلة للجريمة لاجتهادات مختلفة مما يُفقده خاصية اليقين التى يجب توافرها فى النصوص الجزائية .
وحيث إنه باستعراض التطور التاريخى للمادة (48) المشار إليها، يبين أن المشرع المصرى أدخل جريمة الاتفاق الجنائى كجريمة قائمة بذاتها - تختلف عن الاتفاق كسبيل من سبل المساهمه الجنائية - بالمادة (47) مكررة من قانون العقوبات الأهلى ، وكان ذلك بمناسبة اغتيال رئيس مجلس النظار سنة 1910 فقدمت النيابة العامة إلى قاضى الإحالة تسعة متهمين أولهم بتهمة القتل العمد مع سبق الاصرار والترصد، والباقين بتهمة الاشتراك فى القتل، غير أن القاضى اقتصر على تقديم الأول إلى محكمة الجنايات ورفض إحالة الباقين لعدم توافر أركان الجريمة قبلهم، فتقدمت الحكومة إلى مجلس شورى القوانين بمشروع بإضافة نص المادة (47) مكررة إلى قانون العقوبات الأهلى - وهو يؤثم جريمة الاتفاق الجنائى المجرد على ذات النحو الذى ورد بعد ذلك بالنص الطعين مع خلاف بسيط فى الصياغة - غير أن المجلس عارض الموافقة على المشروع مستنداًً إلى أن القانون المصرى -كالقوانين الأخرى - لا يعاقب على شئ من الأعمال التى تتقدم الشروع فى ارتكاب الجريمة ، كالتفكير فيها والتصميم عليها واتفاق الفاعلين أو الفاعلين والشركاء على كيفية إرتكابها، ولاعلى إتيان الأعمال المجهِّزة أو المحضِّرة لها. وعرّج المجلس إلى المقارنة بين النص المقترح ونظيره فى القانون المقارن موضحاً أن القانون الفرنسى يشترط للتجريم وجود جمعية من البغاة أو اتفاق بين عدة أشخاص وأن يكون غرض الجمعية أو الاتفاق تحضير أو ارتكاب جنايات على الأشخاص والأموال. وأشار المجلس إلى أنه إذا كانت هناك حاجة للاستثناء من ذلك فيجب أن يكون بقدر الضرورة التى يقتضيها حفظ النظام، وأنه لأجل أن تكون المادة (47) مكررة مقيسة بمقياس الضرورة النافعة فيجب ألا تشمل سوى الجمعيات التى يُخشى منها على ما يجب للموظفين العموميين أو السياسيين من الطمأنينة ، أو بعبارة أخرى يجب أن لا يُقصد منها إلا حماية نظام الحكومة ، فلايشمل النص الأحوال الأخرى كالاتفاقات الجنائية التى تقع بين شخصين أو أكثر على ارتكاب جناية أو جنحة تدخل فى باب الجرائم العادية كجرائم السرقة أو الضرب أوالتزوير أو غير ذلك من الجرائم الواقعة على الأشخاص وعلى الأموال؛ غير أن نظارة الحقانية رفضت اقتراح المجلس إذ رأته يثير صعوبات كبيرة فى العمل ويفتقد الضمانات الفعالة ضد جميع الاتفاقات التى تكون غايتها تحقيق المقاصد السياسية بطريق القوة ، وأضافت أن القانون الجديد لم يوضع إلا للأحوال التى تجعل الأمن العام فى خطر، ولن يُعمل به أصلاً بما يجعله مهدداً للحرية الشخصية ، والمأمول أن لا تدعو الأحوال إلى تطبيق هذا القانون إلا فى النادر كما فى البلاد التى استُقى منها. وصدر نص المادة (47) مكررة عقوبات أهلى معاقباً على الاتفاق الجنائى ، بعد أن برر مستشار الحكومة استعمال المشرع لتعبير الاتفاق الجنائى بديلاً عن كلمة association الواردة فى القانون الفرنسى - والتى جاءت أيضاً فى النسخة الفرنسية لقانون العقوبات الأهلى - بأن هذا اللفظ الأخير قد يفيد قدراً من التنظيم والاستمرار.
وحيث إن أحكام القضاء فى شأن جريمة الاتفاق الجنائى -كجريمة قائمة بذاتها - اتجهت فى البداية إلى وجوب قيام اتفاق منظم ولو فى مبدأ تكوينه وأن يكون مستمراً ولو لمدة من الزمن، واستند القضاء فى ذلك إلى الاسترشاد بالفكرة التى حملت المشرع إلى تجريم الاتفاق الجنائى ، غير أنه عدل بعد ذلك عن هذا الاتجاه، فقُضى بأن مجرد الاتفاق على ارتكاب جناية
أو جنحة كاف بذاته لتكوين جريمة الاتفاق الجنائى بلا حاجة إلى تنظيم ولا إلى استمرار، وقد أُشير فى بداية هذا العدول إلى أن المادة (47) مكررة عقوبات أهلى هى فى حقيقة الواقع من مشكلات القانون التى لا حل لها لأنها أتت بمبدأ يُلقى الاضطراب الشديد فى بعض أصول القانون الأساسية ، وأن عبارات التنظيم والاستمرار هى عبارات اضطرت المحاكم للقول بها هرباً من طغيان هذه المادة ، والظاهر - من الأعمال التحضيرية للنص - أن مراد واضعيه أن يكون بيد الحكومة أداة تستعملها عند الضرورة وفى الأحوال الخطرة استعمالاً لايكون فى اتساع ميدانه وشموله محلاً للتأويل من جهة القضاء التى تطبقه، وأن الأجدر معاودة النظر فى ذلك النص بما يوائم بين الحفاظ على النظام والأمن العام من جهة ويزيل اللبس والخلط بينه والمبادئ الأخرى ، وإلى أن يتم ذلك فلا سبيل لتفادى إشكال هذا النص ومنع إضراره، إلا ما حرصت عليه النيابة العامة من عدم طلب تطبيقه إلا فى الأحوال الخطرة على الأمن العام. وإذا كان المشرع قد عاود النظر مرتين فى المادة سالفة الذكر سنتى 1933، 1937 إلا أنه ظل على فكرته الأساسية فيها التى تقوم على عقاب الاتفاق البسيط على ارتكاب أية جناية
أو جنحة ، ولولم تقع أية جريمة نتيجة لذلك الاتفاق.
وحيث إن نص المادة (48) المشار إليها كان محل انتقاد اللجنة التى شُكِّلَتْ لوضع آخر مشروع حديث متكامل لقانون العقوبات - خلال الوحدة بين مصر وسوريا تحت إشراف مستشار رئيس الجمهورية للشئون القانونية آنذاك - برئاسة الأستاذ على بدوى وزير العدل وعميد كلية الحقوق بجامعة القاهرة الأسبق وعضوية كل من رئيس الدائرة الجنائية بمحكمة النقض والمستشار عادل يونس والدكتور على راشد أستاذ القانون الجنائى بكلية الحقوق بجامعة عين شمس... وغيرهم، حيث ورد بالمذكرة الإيضاحية للمشروع أنه قد أصلح من أحكام جريمة الاتفاق الجنائى التى تم وضع نصها فى ظروف استثنائية والتى لم يكن لها نظير... وأعيدت صياغة أحكامها بحيث تتفق مع اتجاهات التشريع الحديث؛ واختُتِمَت تلك المذكرة بأنه قد رؤى أنه من الأفضل أن يُلحق بالنصوص المقترحة ما يتصل بها من تعليقات وإيضاحات مبرِّرة لها أو مفسرة لأحكامها كترجمة مباشرة لأفكار من اشتركوا فى صوغ أحكامه وقت مناقشتها مما لايتوفر عادة فى المذكرات الإيضاحية .... فضلاً عن ميزة تسهيل الوقوف على مقاصد النصوص التى تم التوصل إليها بإجماع الآراء.... وبذلك يكون المشروع خلاصة لأعمال لجان متعددة ومشاريع استغرق وضعها سنين طويلة الأمد، روجعت على ضوء القانون المقارن والفقه الحديث ونشاط المؤتمرات الدولية ليكون ذلك القانون مرآة لما بلغته الجمهورية من تطور مرموق فى الميدان التشريعى . وفى مقام التعليق على نص المشروع فى المادة (59) منه (المقابلة للمادة (48) من قانون العقوبات) أوردت اللجنة أنها رأت بمناسبة وضع التشريع الجديد أن جريمة الاتفاق الجنائى على الوضع المقرر فى التشريع المصرى الحالى فى المادة (48) إنما هو نظام استثنائى اقتضت إنشاءه ظروف استثنائية ويندر وجود نظير له فى الشرائع الأخرى الحديثة ... هذا فضلاً عما أفضى إليه تطبيقه من الاضطرابات والجدل فى تفسير أحكامه، ولذلك فضلت اللجنة العدول عنه فى المشروع الجديد اكتفاء بجرائم الاتفاقات الخاصة التى نص عليها القانون فى حالات معينة بارزة الخطورة . يضاف إلى ذلك أن اللجنة رأت... اعتبار تعدد المجرمين ... ظرفاً مشدداً إذا وقعت الجريمة بناء على اتفاقهم السابق، فإذا بقى الاتفاق بغير نتيجة كان هناك محل لتوقيع التدابير الاحترازية التى يقررها القانون.... بدلاً من توقيع العقوبات العادية ...، وتحديداً لمعنى الخطورة ... اشترط النص أن يقع الاتفاق بين ثلاثة على الأقل حتى يتحقق الظرف المشدد أو يتوافر شرط توقيع التدابير الاحترازية . وليس المراد بالاتفاق فى هذه الحالة مجرد التفاهم العرَضى وإنما هو الاتفاق المصمم عليه الذى تُدبَّر فيه الجريمة وكيفية إرتكابها، وهذا النوع من الاتفاق هو الذى يبلغ درجة من الخطورة تقتضى معالجتها تشريعياً بتشديد العقاب إذا وقعت الجريمة المدبرة ، أو بتوقيع التدابير الاحترازية التى يقررها القانون.... إذا لم تقع الجريمة ، والمفهوم من تعبير وقوع الجريمة نتيجة للاتفاق... هو أن تقع الجريمة تامة أو مشروعاً فيها شروعاً معاقباً عليه.
وحيث إنه إذا كان الهدف من التجريم قديماً هو مجرد مجازاة الجانى عن الجريمة التى اقترفها، فقد تطور هذا الهدف فى التشريع الحديث ليصبح منع الجريمة سواء كان المنع ابتداء أو ردع الغير عن ارتكاب مثلها، فالاتجاهات المعاصرة للسياسة الجنائية فى مختلف الدول تتجه - كما تشير المؤتمرات المتعاقبة للأمم المتحدة بشأن منع الجريمة ومعاملة المجرمين - إلى أهمية إتخاذ التدابير المانعة لوقوع الجريمة وسن النصوص التى تكفل وقاية المجتمع منها وتجريم الاشتراك فى الجمعيات الإجرامية وتنمية التعاون الدولى لمكافحة الجريمة المنظمة ، إلا أن شرعية النصوص التى تتخذ كوسيلة لتحقيق هذه الأهداف مناطها توافقها وأحكام الدستور واتفاقها ومبادئه ومقتضاه، ومن ثم يتعين على المشرع - فى هذا المقام - إجراء موازنة دقيقة بين مصلحة المجتمع والحرص على أمنه واستقراره من جهة ، وحريات وحقوق الأفراد من جهة أخرى .
وحيث إن الدستور ينص فى المادة (41) على أن الحرية الشخصية حق طبيعى وهى مصونة لا تمس... كما ينص فى المادة (66) على أن العقوبة شخصية . ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائى ، ولا عقاب إلا على الأفعال اللا حقة لتاريخ نفاذ القانون، كما حرص فى المادة (67) على تقرير افتراض البراءة ، فالمتهم برئ إلى أن تثبت إدانته فى محاكمة من صفة تُكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه.
وحيث أن الدستور - بنص المادة (66) سالفة الذكر - قد دل على أن لكل جريمة ركناً مادياً لا قوام لها بغيره يتمثل أساساً فى فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابى ، مفصحاً بذلك عن أن ما يركن إليه القانون الجنائى ابتداء فى زواجره ونواهيه هو مادية الفعل المؤاخذ على ارتكابه إيجابياً كان هذا الفعل أم سلبياً، ذلك أن العلائق التى ينظمها هذا القانون فى مجال تطبيقه على المخاطبين بأحكامه، محورها الأفعال ذاتها، فى علاماتها الخارجية ، ومظاهرها الواقعية ، وخصائصها المادية ، إذ هى مناط التأثيم وعلته، وهى التى يتصور إثباتها ونفيها، وهى التى يتم التمييز على ضوئها بين الجرائم بعضها البعض، وهى التى تديرها محكمة الموضوع على حكم العقل لتقييمها وتقدير العقوبة المناسبة لها، ولا يتصور بالتالى وفقاً لأحكام الدستور أن توجد جريمة فى غيبة ركنها المادى ، ولا إقامة الدليل على توافر السببية بين مادية الفعل المؤثم والنتائج التى أحدثها بعيداً عن حقيقة هذا الفعل ومحتواه. ولازم ذلك أن كل مظاهر التعبير عن الإرادة البشرية -وليس النوايا التى يضمرها الإنسان فى أعماق ذاته - تعتبر واقعة فى منطقة التجريم كلما كانت تعكس سلوكاً خارجياً مؤاخذاً عليه قانوناً. فإذا كان الأمر غير متعلق بأفعال أحدثتها إرادة مرتكبها، وتم التعبير عنها خارجياً فى صورة مادية لا تخطئها العين، فليس ثمة جريمة .
وحيث إنه من القواعد المبدئية التى يتطلبها الدستور فى القوانين الجزائية ، أن تكون درجة اليقين التى تنتظم أحكامها فى أعلى مستوياتها، وأظهر فى هذه القوانين منها فى أية تشريعات أخرى ، ذلك أن القوانين الجزائية تفرض على الحرية الشخصية أخطر القيود وأبلغها أثراً، ويتعين بالتالى - ضماناً لهذه الحرية - أن تكون الأفعال التى تؤثمها هذه القوانين محددة بصورة قاطعة بما يحول دون التباسها بغيرها، وأن تكون تلك القوانين جلية واضحة فى بيان الحدود الضيقة لنواهيها، ذلك أن التجهيل بها أو انبهامها فى بعض جوانبها لا يجعل المخاطبين بها على بينة من حقيقة الأفعال التى يتعين عليهم تجنبها.كذلك فإن غموض مضمون النص العقابى مؤداه: أن يُحَال بين محكمة الموضوع وبين إعمال قواعد من ضبطة تُعيّن لكل جريمة أركانها وتقرر عقوبتها بما لا خفاء فيه. وهى قواعد لا ترخص فيها وتمثل إطاراً لعملها لايجوز تجاوزه، ذلك أن الغاية التى يتوخاها الدستور هى أن يوفر لكل مواطن الفرص الكاملة لمباشرة حرياته فى إطار من الضوابط التى قيدها بها، ولازم ذلك أن تكون القيود على الحرية التى تفرضها القوانين الجزائية ، محددة بصورة يقينية لأنها تدعو المخاطبين بها إلى الامتثال لها لكى يدفعوا عن حقهم فى الحياة وكذلك عن حرياتهم، تلك المخاطر التى تعكسها العقوبة ، بحيث لا يتم تجاوز الحدود التى اعتبرها الدستور مجالاً حيوياً لمباشرة الحقوق والحريات التى كفلها، وهو مايخل فى النهاية بالضوابط الجوهرية التى تقوم عليها المحاكمة المنصفة وفقاً لنص المادة (67) من الدستور.
وحيث إن البيّن من استقراء نص الفقرة الأولى من المادة (48) المشار إليها أنها عرفت الاتفاق الجنائى بأنه اتحاد شخصين أو أكثر على ارتكاب جناية أو جنحة أوعلى الأعمال المجهزة أو المسهلة لارتكابها، ولم يشترط النص عدداً أكثر من اثنين لقيام الجريمة ، كما لم يتطلب أن يستمر الاتفاق لمدة معينة أو أن يكون على قدر من التنظيم، وقد يكون محل الاتفاق عدة جنايات، أو عدة جنح، أو مجموعة جرائم مختلطة من النوعين معاً، كما قد لا يرد الاتفاق إلا على جناية أوجنحة واحدة ، ولم يستلزم النص أن تكون الجريمة أو الجرائم المتفق على إرتكابها على درجة من الجسامة ، بل قد يكون محل الاتفاق اقتراف أى جنحة مهما كانت قليلة الأهمية فى دلالتها الإجرامية ، كما أنه ليس بلازم أن تتعين الجناية أو الجنحة محل الاتفاق كما لو تم الاتفاق على استعمال العنف - بأى درجة - لتحقيق غاية الاتفاق، سواء كانت هذه الغاية فى ذاتها مشروعة أو غير مشروعة ، ومن ثم فإن نطاق التجريم جاء واسعاً فضفاضاً لاتقتضيه ضرورة اجتماعية مبرَّرة .
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن شرعية الجزاء - جنائياً كان أم مدنياً أم تأديبياً - مناطها أن يكون متناسباً مع الأفعال التى أثمها المشرع أو حظرها أو قيد مباشرتها. فالأصل فى العقوبة هو معقوليتها، فكل ما كان الجزاء الجنائى بغيضاً أو عاتياً، أو كان متصلاً بأفعال لا يسوغ تجريمها، أو مجافياً بصورة ظاهرة للحدود التى يكون معها متناسباً مع خطورة الأفعال التى أثمها المشرع، فإنه يفقد مبررات وجوده ويصبح تقييده للحرية الشخصية إعتسافاً؛ متى كان ذلك، وكانت الفقرة الثانية من المادة (48) تقرر عقوبة السجن على الاتفاق الجنائى على ارتكاب جناية ، وكانت عقوبة السجن هى وضع المحكوم عليه فى أحد السجون العمومية وتشغيله داخل السجن أو خارجه فى الأعمال التى تعينها الحكومة المدة المحكوم بها عليه، ولايجوز أن تنقص عن ثلاث سنوات ولا أن تزيد على خمس عشرة سنة إلا فى الأحوال الخصوصية المنصوص عليها قانوناً، بينما هناك جنايات كثيرة حدد المشرع العقوبة فيها بالسجن مدة تقل عن خمس عشرة سنة ؛ كما تنص ذات الفقرة على أن عقوبة الاتفاق الجنائى على ارتكاب الجنح هى الحبس أى وضع المحكوم عليه فى أحد السجون المركزية أو العمومية المدة المحكوم بها عليه وحدها الأدنى أربع وعشرون ساعة ولا تزيد على ثلاث سنوات إلا فى الأحوال الخصوصية المنصوص عليها قانوناً، بينما هناك جنح متعددة حدد المشرع العقوبة فيها بالحبس مدة تقل عن ثلاث سنوات؛ وهو ما يكشف عن عدم تناسب العقوبات الواردة فى الفقرة الثانية من النص المطعون فيه مع الفعل المؤثم، ولا وجه للمحاجة فى هذا المقام بأن الفقرة الرابعة من المادة (48) المشار إليها تقضى بأنه إذا كان محل الاتفاق جناية أو جنحة معينة عقوبتها أخف مما نصت عليه الفقرة السابقة فلا توقع عقوبة أشد مما نص عليه القانون لتلك الجناية أو الجنحة ، ذلك أن محل الاتفاق - كما سبقت الإشارة - قد يكون ارتكاب جناية أو جنحة غير معيّنة بذاتها وعندئذ توقع العقوبات الواردة فى الفقرة الثانية من المادة وحدها، وهى تصل إلى السجن خمْس عشرة سنة أو الحبس ثلاث سنوات - حسب الأحوال - ولا شك أنها عقوبات مفرطة فى قسوتها تكشف عن مبالغة المشرع فى العقاب بما لا يتناسب والفعل المؤثم.
وحيث إنه لما كان الهدف من العقوبة الجنائية هو الزجر الخاص للمجرم جزاء لما اقترف، والردع العام للغير ليحمل من يُحتمل ارتكابهم الجريمة على الإعراض عن إتيانها، وكانت الفقرة الرابعة من المادة (48) تقرر توقيع العقوبة المقررة لارتكاب الجناية أو الجنحة محل الاتفاق على مجرد الاتفاق على اقترافها حتى ولو لم يتم إرتكابها فعلاً، فإنها بذلك لا تحقق ردعاً عاماً ولا خاصاً، بل أن ذلك قد يشجع المتفقين على ارتكاب الجريمة محل الاتفاق طالما أن مجرد الاتفاق على اقترافها سيؤدى إلى معاقبتهم بذات عقوبة إرتكابها.
وحيث إن السياسة الجنائية الرشيدة يتعين أن تقوم على عناصر متجانسة ، فإن قامت على عناصر متنافرة نجم عن ذلك افتقاد الصلة بين النصوص ومراميها، بحيث لا تكون مؤدية إلى تحقيق الغاية المقصودة منها لإنعدام الرابطة المنطقية بينها؛ تقديراً بأن الأصل فى النصوص التشريعية - فى الدولة القانونية - هو ارتباطها عقلاً بأهدافها، باعتبار أن أى تنظيم تشريعى ليس مقصوداً لذاته، وإنما هو مجرد وسيلة لتحقيق تلك الأهداف؛ ومن ثم يتعين دائماً استظهار ما إذا كان النص الطعين يلتزم إطاراً منطقياً للدائرة التى يعمل فيها، كافلاً من خلالها تناغم الأغراض التى يستهدفها، أم متهادماً مع مقاصده أو مجاوزاً لها، ومناهضاً - بالتالى - لمبدأ خضوع الدولة للقانون المنصوص عليه فى المادة (65) من الدستور؛ متى كان ذلك وكان المشرع الجنائى قد نظم أحكام الشروع فى الباب الخامس من قانون العقوبات (المواد من 45 إلى 47) وهو الذى يسبق مباشرة الباب السادس الخاص بالاتفاق الجنائى ، وكان الشروع هو البدء فى تنفيذ فعل بقصد ارتكاب جناية أو جنحة إذا أوقف أثره لأسباب لا دخل لإرادة الفاعل فيها، وكان مجرد العزم على ارتكاب الجريمة أو الأعمال التحضيرية لذلك لا يعتبر شروعاً، بحيث يتعدى الشروع مرحلة مجرد الاتفاق على ارتكاب الجريمة إلى البدء فعلاً فى تنفيذها، وكان الشروع غير معاقب عليه فى الجنح إلا بنص خاص، أما فى الجنايات فإن عقوبة الشروع تقل درجة عن العقوبة المقررة لارتكاب الجناية ، أو بما لا يزيد على نصف الحد الأقصى للعقوبة المقررة للجريمة التامة ؛ فإذا أعقب المشرع تلك الأحكام بالنص فى المادة (48) على تجريم مجرد اتحاد إرادة شخصين أو أكثر على ارتكاب أى جناية أو جنحة أو على الأعمال المجهِّزة
أو المسهِّلة لارتكابها، وتحديد العقوبة على النحو السالف بيانه بالعقوبة المقررة لارتكاب الجناية أو الجنحة محل الاتفاق، فإنه يكون منتهجاً نهجاً يتنافر مع سياسة العقاب على الشروع، ومناقضاً - بالتالى - للأسس الدستورية للتجريم.
وحيث إن الفقرة الأخيرة من المادة (48) تقرر الاعفاء من العقوبات المقررة لمن يبادر من الجناة بإخبار الحكومة بوجود الاتفاق الجنائى والمشتركين فيه قبل وقوع الجناية أو الجنحة محل الاتفاق، فإن حصل الإخبار بعد البحث والتفتيش تعين أن يوصل إلى ضبط الجناة ، وذلك ابتغاء تشجيع المتفقين على الإبلاغ بإعفائهم من العقاب على النحو السالف البيان؛ إلا أن مؤدى النص أنه إذا ما تم الاتفاق ثم عدل المتفقون جميعاًمن تلقاء أنفسهم عن المضى فى الاتفاق فإن جريمة الاتفاق الجنائى تكون قد وقعت متكاملة الأركان ويحق العقاب على المتفقين، فيغدو ارتكاب الجريمة محل الاتفاق - فى تقدير المتفقين - ليس أسوأ من مجرد الاتفاق عليها ولا يكون لتجنب إرتكابها والعدول عن اقترافها فائدة ما، وهو مايعنى عدم تحقيق النص المطعون عليه للمقاصد التى ابتغاها المشرع.
وحيث إن الرقابة القضائية التى تباشرها هذه المحكمة فى شأن دستورية النصوص العقابية ، تضبطها مقاييس صارمة ، ومعايير حادة تلتئم وطبيعة هذه النصوص فى اتصالها المباشر بالحرية الشخصية التى أعلى الدستور قدرها، مما يفرض على المشرع الجنائى أن ينتهج الوسائل القانونية السليمة سواء فى جوانبها الموضوعية أو الإجرائية لضمان ألا تكون العقوبة أداة عاصفة بالحرية ، وأن تكون العقوبة التى يفرضها فى شأن الجريمة تبلور مفهوماً للعدالة يتحدد على ضوء الأغراض الاجتماعية التى تستهدفها، فلا يندرج تحتها مجرد رغبة الجماعة فى إرواء تعطشها للثأر والانتقام، أو سعيها للبطش بالمتهم، كما لا يسوغ للمشرع أن يجعل من نصوصه العقابية شباكاً أو شراكاً يلقيها ليتصيد باتساعها أو بخفائها من يقعون تحتها أو يخطئون مواقعها، وكان الجزاء الجنائى لا يعد مُبرَّراً إلا إذا كان واجباً لمواجهة ضرورة اجتماعية لها وزنها، ومتناسباً مع الفعل المؤثم فإن جاوز ذلك كان مفرطاً فى القسوة مجافياً للعدالة ، ومن فصلاً عن أهدافه المشروعة ؛ متى كان ماتقدم جميعه فإن المادة (48) المشار إليها تكون قد وقعت فى حمأة المخالفة الدستورية لخروجها على مقتضى المواد (41، 65، 66، 67) من الدستور.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم دستورية نص المادة (48) من قانون العقوبات، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة .
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت 2 يونيه سنة 2001 الموافق العاشر من ربيع الأول سنة 1422هـ .
برئاسة السيد المستشار / محمد ولى الدين جلال رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين / حمدى محمد على وعبد الرحمن نصير والدكتور عبد المجيد فياض وماهر البحيرى ومحمد على سيف الدين وعدلي محمود منصور
وحضور السيد المستشار/محمد خيرى طه عبد المطلب النجار رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد / ناصر امام محمد حسن أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
فى القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 114 لسنة 21 قضائية دستورية
المقامة من
السيد / السعيد عيد طه نور
ضد
1 - السيد رئيس الجمهورية
2 - السيد وزير العدل
3 - السيد رئيس مجلس الشعب
4 - السيد النائب العام
الإجراءات
بتاريخ الثانى والعشرين من يونيو سنة 1999 أودع المدعى قلم كتاب المحكمة صحيفة الدعوى الماثلة طالباً الحكم بعدم دستورية نص المادة (48) من قانون العقوبات.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى .
وبعد تحضير الدعوى ، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونُظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة ، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة .
حيث إن الوقائع - على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل فى أن النيابة العامة أحالت المدعى إلى محكمة جنايات طنطا، متهمة إياه بأنه - بدائرة مركز زفتى محافظة الغربية - أحرز بغير ترخيص سلاحاً، واتفق مع آخر على ارتكاب جنحة سرقة مرتبطة بجناية ارتكبها الأخير، وأثناء نظر الدعوى دفع المدعى بعدم دستورية نص المادة (48) من قانون العقوبات، فقدرت محكمة الموضوع جدية هذا الدفع وصرحت له برفع الدعوى الدستورية فأقام الدعوى الماثلة .
وحيث إن المادة (48) من قانون العقوبات يجرى نصها كالآتى :
فقرة أولى يوجد اتفاق جنائى كلما اتحد شخصان فأكثر على ارتكاب جناية أو جنحة ما أوعلى الأعمال المجهِّزة أو المسهِّلة لارتكابها، ويعتبر الاتفاق جنائياً سواء أكان الغرض منه جائزاً أم لا إذا كان ارتكاب الجنايات أو الجنح من الوسائل التى لوحظت فى الوصول إليه.
فقرة ثانية وكل من اشترك فى اتفاق جنائى سواء كان الغرض منه ارتكاب الجنايات أو اتخاذها وسيلة للوصول إلى الغرض المقصود منه يعاقب لمجرد اشتراكه بالسجن. فإذا كان الغرض من الاتفاق ارتكاب الجنح أو اتخاذها وسيلة للوصول إلى الغرض المقصود منه يعاقب المشترك فيه بالحبس.
فقرة ثالثة وكل من حرض على اتفاق جنائى من هذا القبيل أو تداخل فى إدارة حركته يعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة فى الحالة الأولى المنصوص عليها فى الفقرة السابقة وبالسجن فى الحالة الثانية .
فقرة رابعة ومع ذلك إذا لم يكن الغرض من الاتفاق إلا ارتكاب جناية أو جنحة معينة عقوبتها أخف مما نصت عليه الفقرات السابقة فلا توقع عقوبة أشد مما نص عليه القانون لتلك الجناية أو الجنحة .
فقرة خامسة ويعفى من العقوبات المقررة فى هذه المادة كل من بادر من الجناة بإخبار الحكومة بوجود اتفاق جنائى ، وبمن اشتركوا فيه قبل وقوع أية جناية أو جنحة ، وقبل بحث وتفتيش الحكومة عن أولئك الجناة ، فإذا حصل الإخبار بعد البحث والتفتيش تعين أن يوصل الإخبار فعلاً إلى ضبط الجناة الأخرين.
وحيث إن المدعى ينعى على نص هذه المادة عدم بيانه للركن المادى للجريمة ، ذلك أن الركن المادى هو سلوك أو نشاط خارجى ، فلا جريمة بغير فعل أو ترك، ولا يجوز للمشرع الجنائى أن يعاقب على مجرد الأفكار والنوايا، باعتبار أن أوامر القانون ونواهيه لا تنتهك بالنية وحدها، وإنما بالأفعال التى تصدر عن إرادة آثمة ؛ فضلاً عن أن النص جاءت صياغته واسعة يمكن تحميلها بأكثر من معنى وتتعدد تأويلاتها إذ ترك تحديد الأعمال المجهزة والمسهلة للجريمة لاجتهادات مختلفة مما يُفقده خاصية اليقين التى يجب توافرها فى النصوص الجزائية .
وحيث إنه باستعراض التطور التاريخى للمادة (48) المشار إليها، يبين أن المشرع المصرى أدخل جريمة الاتفاق الجنائى كجريمة قائمة بذاتها - تختلف عن الاتفاق كسبيل من سبل المساهمه الجنائية - بالمادة (47) مكررة من قانون العقوبات الأهلى ، وكان ذلك بمناسبة اغتيال رئيس مجلس النظار سنة 1910 فقدمت النيابة العامة إلى قاضى الإحالة تسعة متهمين أولهم بتهمة القتل العمد مع سبق الاصرار والترصد، والباقين بتهمة الاشتراك فى القتل، غير أن القاضى اقتصر على تقديم الأول إلى محكمة الجنايات ورفض إحالة الباقين لعدم توافر أركان الجريمة قبلهم، فتقدمت الحكومة إلى مجلس شورى القوانين بمشروع بإضافة نص المادة (47) مكررة إلى قانون العقوبات الأهلى - وهو يؤثم جريمة الاتفاق الجنائى المجرد على ذات النحو الذى ورد بعد ذلك بالنص الطعين مع خلاف بسيط فى الصياغة - غير أن المجلس عارض الموافقة على المشروع مستنداًً إلى أن القانون المصرى -كالقوانين الأخرى - لا يعاقب على شئ من الأعمال التى تتقدم الشروع فى ارتكاب الجريمة ، كالتفكير فيها والتصميم عليها واتفاق الفاعلين أو الفاعلين والشركاء على كيفية إرتكابها، ولاعلى إتيان الأعمال المجهِّزة أو المحضِّرة لها. وعرّج المجلس إلى المقارنة بين النص المقترح ونظيره فى القانون المقارن موضحاً أن القانون الفرنسى يشترط للتجريم وجود جمعية من البغاة أو اتفاق بين عدة أشخاص وأن يكون غرض الجمعية أو الاتفاق تحضير أو ارتكاب جنايات على الأشخاص والأموال. وأشار المجلس إلى أنه إذا كانت هناك حاجة للاستثناء من ذلك فيجب أن يكون بقدر الضرورة التى يقتضيها حفظ النظام، وأنه لأجل أن تكون المادة (47) مكررة مقيسة بمقياس الضرورة النافعة فيجب ألا تشمل سوى الجمعيات التى يُخشى منها على ما يجب للموظفين العموميين أو السياسيين من الطمأنينة ، أو بعبارة أخرى يجب أن لا يُقصد منها إلا حماية نظام الحكومة ، فلايشمل النص الأحوال الأخرى كالاتفاقات الجنائية التى تقع بين شخصين أو أكثر على ارتكاب جناية أو جنحة تدخل فى باب الجرائم العادية كجرائم السرقة أو الضرب أوالتزوير أو غير ذلك من الجرائم الواقعة على الأشخاص وعلى الأموال؛ غير أن نظارة الحقانية رفضت اقتراح المجلس إذ رأته يثير صعوبات كبيرة فى العمل ويفتقد الضمانات الفعالة ضد جميع الاتفاقات التى تكون غايتها تحقيق المقاصد السياسية بطريق القوة ، وأضافت أن القانون الجديد لم يوضع إلا للأحوال التى تجعل الأمن العام فى خطر، ولن يُعمل به أصلاً بما يجعله مهدداً للحرية الشخصية ، والمأمول أن لا تدعو الأحوال إلى تطبيق هذا القانون إلا فى النادر كما فى البلاد التى استُقى منها. وصدر نص المادة (47) مكررة عقوبات أهلى معاقباً على الاتفاق الجنائى ، بعد أن برر مستشار الحكومة استعمال المشرع لتعبير الاتفاق الجنائى بديلاً عن كلمة association الواردة فى القانون الفرنسى - والتى جاءت أيضاً فى النسخة الفرنسية لقانون العقوبات الأهلى - بأن هذا اللفظ الأخير قد يفيد قدراً من التنظيم والاستمرار.
وحيث إن أحكام القضاء فى شأن جريمة الاتفاق الجنائى -كجريمة قائمة بذاتها - اتجهت فى البداية إلى وجوب قيام اتفاق منظم ولو فى مبدأ تكوينه وأن يكون مستمراً ولو لمدة من الزمن، واستند القضاء فى ذلك إلى الاسترشاد بالفكرة التى حملت المشرع إلى تجريم الاتفاق الجنائى ، غير أنه عدل بعد ذلك عن هذا الاتجاه، فقُضى بأن مجرد الاتفاق على ارتكاب جناية
أو جنحة كاف بذاته لتكوين جريمة الاتفاق الجنائى بلا حاجة إلى تنظيم ولا إلى استمرار، وقد أُشير فى بداية هذا العدول إلى أن المادة (47) مكررة عقوبات أهلى هى فى حقيقة الواقع من مشكلات القانون التى لا حل لها لأنها أتت بمبدأ يُلقى الاضطراب الشديد فى بعض أصول القانون الأساسية ، وأن عبارات التنظيم والاستمرار هى عبارات اضطرت المحاكم للقول بها هرباً من طغيان هذه المادة ، والظاهر - من الأعمال التحضيرية للنص - أن مراد واضعيه أن يكون بيد الحكومة أداة تستعملها عند الضرورة وفى الأحوال الخطرة استعمالاً لايكون فى اتساع ميدانه وشموله محلاً للتأويل من جهة القضاء التى تطبقه، وأن الأجدر معاودة النظر فى ذلك النص بما يوائم بين الحفاظ على النظام والأمن العام من جهة ويزيل اللبس والخلط بينه والمبادئ الأخرى ، وإلى أن يتم ذلك فلا سبيل لتفادى إشكال هذا النص ومنع إضراره، إلا ما حرصت عليه النيابة العامة من عدم طلب تطبيقه إلا فى الأحوال الخطرة على الأمن العام. وإذا كان المشرع قد عاود النظر مرتين فى المادة سالفة الذكر سنتى 1933، 1937 إلا أنه ظل على فكرته الأساسية فيها التى تقوم على عقاب الاتفاق البسيط على ارتكاب أية جناية
أو جنحة ، ولولم تقع أية جريمة نتيجة لذلك الاتفاق.
وحيث إن نص المادة (48) المشار إليها كان محل انتقاد اللجنة التى شُكِّلَتْ لوضع آخر مشروع حديث متكامل لقانون العقوبات - خلال الوحدة بين مصر وسوريا تحت إشراف مستشار رئيس الجمهورية للشئون القانونية آنذاك - برئاسة الأستاذ على بدوى وزير العدل وعميد كلية الحقوق بجامعة القاهرة الأسبق وعضوية كل من رئيس الدائرة الجنائية بمحكمة النقض والمستشار عادل يونس والدكتور على راشد أستاذ القانون الجنائى بكلية الحقوق بجامعة عين شمس... وغيرهم، حيث ورد بالمذكرة الإيضاحية للمشروع أنه قد أصلح من أحكام جريمة الاتفاق الجنائى التى تم وضع نصها فى ظروف استثنائية والتى لم يكن لها نظير... وأعيدت صياغة أحكامها بحيث تتفق مع اتجاهات التشريع الحديث؛ واختُتِمَت تلك المذكرة بأنه قد رؤى أنه من الأفضل أن يُلحق بالنصوص المقترحة ما يتصل بها من تعليقات وإيضاحات مبرِّرة لها أو مفسرة لأحكامها كترجمة مباشرة لأفكار من اشتركوا فى صوغ أحكامه وقت مناقشتها مما لايتوفر عادة فى المذكرات الإيضاحية .... فضلاً عن ميزة تسهيل الوقوف على مقاصد النصوص التى تم التوصل إليها بإجماع الآراء.... وبذلك يكون المشروع خلاصة لأعمال لجان متعددة ومشاريع استغرق وضعها سنين طويلة الأمد، روجعت على ضوء القانون المقارن والفقه الحديث ونشاط المؤتمرات الدولية ليكون ذلك القانون مرآة لما بلغته الجمهورية من تطور مرموق فى الميدان التشريعى . وفى مقام التعليق على نص المشروع فى المادة (59) منه (المقابلة للمادة (48) من قانون العقوبات) أوردت اللجنة أنها رأت بمناسبة وضع التشريع الجديد أن جريمة الاتفاق الجنائى على الوضع المقرر فى التشريع المصرى الحالى فى المادة (48) إنما هو نظام استثنائى اقتضت إنشاءه ظروف استثنائية ويندر وجود نظير له فى الشرائع الأخرى الحديثة ... هذا فضلاً عما أفضى إليه تطبيقه من الاضطرابات والجدل فى تفسير أحكامه، ولذلك فضلت اللجنة العدول عنه فى المشروع الجديد اكتفاء بجرائم الاتفاقات الخاصة التى نص عليها القانون فى حالات معينة بارزة الخطورة . يضاف إلى ذلك أن اللجنة رأت... اعتبار تعدد المجرمين ... ظرفاً مشدداً إذا وقعت الجريمة بناء على اتفاقهم السابق، فإذا بقى الاتفاق بغير نتيجة كان هناك محل لتوقيع التدابير الاحترازية التى يقررها القانون.... بدلاً من توقيع العقوبات العادية ...، وتحديداً لمعنى الخطورة ... اشترط النص أن يقع الاتفاق بين ثلاثة على الأقل حتى يتحقق الظرف المشدد أو يتوافر شرط توقيع التدابير الاحترازية . وليس المراد بالاتفاق فى هذه الحالة مجرد التفاهم العرَضى وإنما هو الاتفاق المصمم عليه الذى تُدبَّر فيه الجريمة وكيفية إرتكابها، وهذا النوع من الاتفاق هو الذى يبلغ درجة من الخطورة تقتضى معالجتها تشريعياً بتشديد العقاب إذا وقعت الجريمة المدبرة ، أو بتوقيع التدابير الاحترازية التى يقررها القانون.... إذا لم تقع الجريمة ، والمفهوم من تعبير وقوع الجريمة نتيجة للاتفاق... هو أن تقع الجريمة تامة أو مشروعاً فيها شروعاً معاقباً عليه.
وحيث إنه إذا كان الهدف من التجريم قديماً هو مجرد مجازاة الجانى عن الجريمة التى اقترفها، فقد تطور هذا الهدف فى التشريع الحديث ليصبح منع الجريمة سواء كان المنع ابتداء أو ردع الغير عن ارتكاب مثلها، فالاتجاهات المعاصرة للسياسة الجنائية فى مختلف الدول تتجه - كما تشير المؤتمرات المتعاقبة للأمم المتحدة بشأن منع الجريمة ومعاملة المجرمين - إلى أهمية إتخاذ التدابير المانعة لوقوع الجريمة وسن النصوص التى تكفل وقاية المجتمع منها وتجريم الاشتراك فى الجمعيات الإجرامية وتنمية التعاون الدولى لمكافحة الجريمة المنظمة ، إلا أن شرعية النصوص التى تتخذ كوسيلة لتحقيق هذه الأهداف مناطها توافقها وأحكام الدستور واتفاقها ومبادئه ومقتضاه، ومن ثم يتعين على المشرع - فى هذا المقام - إجراء موازنة دقيقة بين مصلحة المجتمع والحرص على أمنه واستقراره من جهة ، وحريات وحقوق الأفراد من جهة أخرى .
وحيث إن الدستور ينص فى المادة (41) على أن الحرية الشخصية حق طبيعى وهى مصونة لا تمس... كما ينص فى المادة (66) على أن العقوبة شخصية . ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائى ، ولا عقاب إلا على الأفعال اللا حقة لتاريخ نفاذ القانون، كما حرص فى المادة (67) على تقرير افتراض البراءة ، فالمتهم برئ إلى أن تثبت إدانته فى محاكمة من صفة تُكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه.
وحيث أن الدستور - بنص المادة (66) سالفة الذكر - قد دل على أن لكل جريمة ركناً مادياً لا قوام لها بغيره يتمثل أساساً فى فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابى ، مفصحاً بذلك عن أن ما يركن إليه القانون الجنائى ابتداء فى زواجره ونواهيه هو مادية الفعل المؤاخذ على ارتكابه إيجابياً كان هذا الفعل أم سلبياً، ذلك أن العلائق التى ينظمها هذا القانون فى مجال تطبيقه على المخاطبين بأحكامه، محورها الأفعال ذاتها، فى علاماتها الخارجية ، ومظاهرها الواقعية ، وخصائصها المادية ، إذ هى مناط التأثيم وعلته، وهى التى يتصور إثباتها ونفيها، وهى التى يتم التمييز على ضوئها بين الجرائم بعضها البعض، وهى التى تديرها محكمة الموضوع على حكم العقل لتقييمها وتقدير العقوبة المناسبة لها، ولا يتصور بالتالى وفقاً لأحكام الدستور أن توجد جريمة فى غيبة ركنها المادى ، ولا إقامة الدليل على توافر السببية بين مادية الفعل المؤثم والنتائج التى أحدثها بعيداً عن حقيقة هذا الفعل ومحتواه. ولازم ذلك أن كل مظاهر التعبير عن الإرادة البشرية -وليس النوايا التى يضمرها الإنسان فى أعماق ذاته - تعتبر واقعة فى منطقة التجريم كلما كانت تعكس سلوكاً خارجياً مؤاخذاً عليه قانوناً. فإذا كان الأمر غير متعلق بأفعال أحدثتها إرادة مرتكبها، وتم التعبير عنها خارجياً فى صورة مادية لا تخطئها العين، فليس ثمة جريمة .
وحيث إنه من القواعد المبدئية التى يتطلبها الدستور فى القوانين الجزائية ، أن تكون درجة اليقين التى تنتظم أحكامها فى أعلى مستوياتها، وأظهر فى هذه القوانين منها فى أية تشريعات أخرى ، ذلك أن القوانين الجزائية تفرض على الحرية الشخصية أخطر القيود وأبلغها أثراً، ويتعين بالتالى - ضماناً لهذه الحرية - أن تكون الأفعال التى تؤثمها هذه القوانين محددة بصورة قاطعة بما يحول دون التباسها بغيرها، وأن تكون تلك القوانين جلية واضحة فى بيان الحدود الضيقة لنواهيها، ذلك أن التجهيل بها أو انبهامها فى بعض جوانبها لا يجعل المخاطبين بها على بينة من حقيقة الأفعال التى يتعين عليهم تجنبها.كذلك فإن غموض مضمون النص العقابى مؤداه: أن يُحَال بين محكمة الموضوع وبين إعمال قواعد من ضبطة تُعيّن لكل جريمة أركانها وتقرر عقوبتها بما لا خفاء فيه. وهى قواعد لا ترخص فيها وتمثل إطاراً لعملها لايجوز تجاوزه، ذلك أن الغاية التى يتوخاها الدستور هى أن يوفر لكل مواطن الفرص الكاملة لمباشرة حرياته فى إطار من الضوابط التى قيدها بها، ولازم ذلك أن تكون القيود على الحرية التى تفرضها القوانين الجزائية ، محددة بصورة يقينية لأنها تدعو المخاطبين بها إلى الامتثال لها لكى يدفعوا عن حقهم فى الحياة وكذلك عن حرياتهم، تلك المخاطر التى تعكسها العقوبة ، بحيث لا يتم تجاوز الحدود التى اعتبرها الدستور مجالاً حيوياً لمباشرة الحقوق والحريات التى كفلها، وهو مايخل فى النهاية بالضوابط الجوهرية التى تقوم عليها المحاكمة المنصفة وفقاً لنص المادة (67) من الدستور.
وحيث إن البيّن من استقراء نص الفقرة الأولى من المادة (48) المشار إليها أنها عرفت الاتفاق الجنائى بأنه اتحاد شخصين أو أكثر على ارتكاب جناية أو جنحة أوعلى الأعمال المجهزة أو المسهلة لارتكابها، ولم يشترط النص عدداً أكثر من اثنين لقيام الجريمة ، كما لم يتطلب أن يستمر الاتفاق لمدة معينة أو أن يكون على قدر من التنظيم، وقد يكون محل الاتفاق عدة جنايات، أو عدة جنح، أو مجموعة جرائم مختلطة من النوعين معاً، كما قد لا يرد الاتفاق إلا على جناية أوجنحة واحدة ، ولم يستلزم النص أن تكون الجريمة أو الجرائم المتفق على إرتكابها على درجة من الجسامة ، بل قد يكون محل الاتفاق اقتراف أى جنحة مهما كانت قليلة الأهمية فى دلالتها الإجرامية ، كما أنه ليس بلازم أن تتعين الجناية أو الجنحة محل الاتفاق كما لو تم الاتفاق على استعمال العنف - بأى درجة - لتحقيق غاية الاتفاق، سواء كانت هذه الغاية فى ذاتها مشروعة أو غير مشروعة ، ومن ثم فإن نطاق التجريم جاء واسعاً فضفاضاً لاتقتضيه ضرورة اجتماعية مبرَّرة .
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن شرعية الجزاء - جنائياً كان أم مدنياً أم تأديبياً - مناطها أن يكون متناسباً مع الأفعال التى أثمها المشرع أو حظرها أو قيد مباشرتها. فالأصل فى العقوبة هو معقوليتها، فكل ما كان الجزاء الجنائى بغيضاً أو عاتياً، أو كان متصلاً بأفعال لا يسوغ تجريمها، أو مجافياً بصورة ظاهرة للحدود التى يكون معها متناسباً مع خطورة الأفعال التى أثمها المشرع، فإنه يفقد مبررات وجوده ويصبح تقييده للحرية الشخصية إعتسافاً؛ متى كان ذلك، وكانت الفقرة الثانية من المادة (48) تقرر عقوبة السجن على الاتفاق الجنائى على ارتكاب جناية ، وكانت عقوبة السجن هى وضع المحكوم عليه فى أحد السجون العمومية وتشغيله داخل السجن أو خارجه فى الأعمال التى تعينها الحكومة المدة المحكوم بها عليه، ولايجوز أن تنقص عن ثلاث سنوات ولا أن تزيد على خمس عشرة سنة إلا فى الأحوال الخصوصية المنصوص عليها قانوناً، بينما هناك جنايات كثيرة حدد المشرع العقوبة فيها بالسجن مدة تقل عن خمس عشرة سنة ؛ كما تنص ذات الفقرة على أن عقوبة الاتفاق الجنائى على ارتكاب الجنح هى الحبس أى وضع المحكوم عليه فى أحد السجون المركزية أو العمومية المدة المحكوم بها عليه وحدها الأدنى أربع وعشرون ساعة ولا تزيد على ثلاث سنوات إلا فى الأحوال الخصوصية المنصوص عليها قانوناً، بينما هناك جنح متعددة حدد المشرع العقوبة فيها بالحبس مدة تقل عن ثلاث سنوات؛ وهو ما يكشف عن عدم تناسب العقوبات الواردة فى الفقرة الثانية من النص المطعون فيه مع الفعل المؤثم، ولا وجه للمحاجة فى هذا المقام بأن الفقرة الرابعة من المادة (48) المشار إليها تقضى بأنه إذا كان محل الاتفاق جناية أو جنحة معينة عقوبتها أخف مما نصت عليه الفقرة السابقة فلا توقع عقوبة أشد مما نص عليه القانون لتلك الجناية أو الجنحة ، ذلك أن محل الاتفاق - كما سبقت الإشارة - قد يكون ارتكاب جناية أو جنحة غير معيّنة بذاتها وعندئذ توقع العقوبات الواردة فى الفقرة الثانية من المادة وحدها، وهى تصل إلى السجن خمْس عشرة سنة أو الحبس ثلاث سنوات - حسب الأحوال - ولا شك أنها عقوبات مفرطة فى قسوتها تكشف عن مبالغة المشرع فى العقاب بما لا يتناسب والفعل المؤثم.
وحيث إنه لما كان الهدف من العقوبة الجنائية هو الزجر الخاص للمجرم جزاء لما اقترف، والردع العام للغير ليحمل من يُحتمل ارتكابهم الجريمة على الإعراض عن إتيانها، وكانت الفقرة الرابعة من المادة (48) تقرر توقيع العقوبة المقررة لارتكاب الجناية أو الجنحة محل الاتفاق على مجرد الاتفاق على اقترافها حتى ولو لم يتم إرتكابها فعلاً، فإنها بذلك لا تحقق ردعاً عاماً ولا خاصاً، بل أن ذلك قد يشجع المتفقين على ارتكاب الجريمة محل الاتفاق طالما أن مجرد الاتفاق على اقترافها سيؤدى إلى معاقبتهم بذات عقوبة إرتكابها.
وحيث إن السياسة الجنائية الرشيدة يتعين أن تقوم على عناصر متجانسة ، فإن قامت على عناصر متنافرة نجم عن ذلك افتقاد الصلة بين النصوص ومراميها، بحيث لا تكون مؤدية إلى تحقيق الغاية المقصودة منها لإنعدام الرابطة المنطقية بينها؛ تقديراً بأن الأصل فى النصوص التشريعية - فى الدولة القانونية - هو ارتباطها عقلاً بأهدافها، باعتبار أن أى تنظيم تشريعى ليس مقصوداً لذاته، وإنما هو مجرد وسيلة لتحقيق تلك الأهداف؛ ومن ثم يتعين دائماً استظهار ما إذا كان النص الطعين يلتزم إطاراً منطقياً للدائرة التى يعمل فيها، كافلاً من خلالها تناغم الأغراض التى يستهدفها، أم متهادماً مع مقاصده أو مجاوزاً لها، ومناهضاً - بالتالى - لمبدأ خضوع الدولة للقانون المنصوص عليه فى المادة (65) من الدستور؛ متى كان ذلك وكان المشرع الجنائى قد نظم أحكام الشروع فى الباب الخامس من قانون العقوبات (المواد من 45 إلى 47) وهو الذى يسبق مباشرة الباب السادس الخاص بالاتفاق الجنائى ، وكان الشروع هو البدء فى تنفيذ فعل بقصد ارتكاب جناية أو جنحة إذا أوقف أثره لأسباب لا دخل لإرادة الفاعل فيها، وكان مجرد العزم على ارتكاب الجريمة أو الأعمال التحضيرية لذلك لا يعتبر شروعاً، بحيث يتعدى الشروع مرحلة مجرد الاتفاق على ارتكاب الجريمة إلى البدء فعلاً فى تنفيذها، وكان الشروع غير معاقب عليه فى الجنح إلا بنص خاص، أما فى الجنايات فإن عقوبة الشروع تقل درجة عن العقوبة المقررة لارتكاب الجناية ، أو بما لا يزيد على نصف الحد الأقصى للعقوبة المقررة للجريمة التامة ؛ فإذا أعقب المشرع تلك الأحكام بالنص فى المادة (48) على تجريم مجرد اتحاد إرادة شخصين أو أكثر على ارتكاب أى جناية أو جنحة أو على الأعمال المجهِّزة
أو المسهِّلة لارتكابها، وتحديد العقوبة على النحو السالف بيانه بالعقوبة المقررة لارتكاب الجناية أو الجنحة محل الاتفاق، فإنه يكون منتهجاً نهجاً يتنافر مع سياسة العقاب على الشروع، ومناقضاً - بالتالى - للأسس الدستورية للتجريم.
وحيث إن الفقرة الأخيرة من المادة (48) تقرر الاعفاء من العقوبات المقررة لمن يبادر من الجناة بإخبار الحكومة بوجود الاتفاق الجنائى والمشتركين فيه قبل وقوع الجناية أو الجنحة محل الاتفاق، فإن حصل الإخبار بعد البحث والتفتيش تعين أن يوصل إلى ضبط الجناة ، وذلك ابتغاء تشجيع المتفقين على الإبلاغ بإعفائهم من العقاب على النحو السالف البيان؛ إلا أن مؤدى النص أنه إذا ما تم الاتفاق ثم عدل المتفقون جميعاًمن تلقاء أنفسهم عن المضى فى الاتفاق فإن جريمة الاتفاق الجنائى تكون قد وقعت متكاملة الأركان ويحق العقاب على المتفقين، فيغدو ارتكاب الجريمة محل الاتفاق - فى تقدير المتفقين - ليس أسوأ من مجرد الاتفاق عليها ولا يكون لتجنب إرتكابها والعدول عن اقترافها فائدة ما، وهو مايعنى عدم تحقيق النص المطعون عليه للمقاصد التى ابتغاها المشرع.
وحيث إن الرقابة القضائية التى تباشرها هذه المحكمة فى شأن دستورية النصوص العقابية ، تضبطها مقاييس صارمة ، ومعايير حادة تلتئم وطبيعة هذه النصوص فى اتصالها المباشر بالحرية الشخصية التى أعلى الدستور قدرها، مما يفرض على المشرع الجنائى أن ينتهج الوسائل القانونية السليمة سواء فى جوانبها الموضوعية أو الإجرائية لضمان ألا تكون العقوبة أداة عاصفة بالحرية ، وأن تكون العقوبة التى يفرضها فى شأن الجريمة تبلور مفهوماً للعدالة يتحدد على ضوء الأغراض الاجتماعية التى تستهدفها، فلا يندرج تحتها مجرد رغبة الجماعة فى إرواء تعطشها للثأر والانتقام، أو سعيها للبطش بالمتهم، كما لا يسوغ للمشرع أن يجعل من نصوصه العقابية شباكاً أو شراكاً يلقيها ليتصيد باتساعها أو بخفائها من يقعون تحتها أو يخطئون مواقعها، وكان الجزاء الجنائى لا يعد مُبرَّراً إلا إذا كان واجباً لمواجهة ضرورة اجتماعية لها وزنها، ومتناسباً مع الفعل المؤثم فإن جاوز ذلك كان مفرطاً فى القسوة مجافياً للعدالة ، ومن فصلاً عن أهدافه المشروعة ؛ متى كان ماتقدم جميعه فإن المادة (48) المشار إليها تكون قد وقعت فى حمأة المخالفة الدستورية لخروجها على مقتضى المواد (41، 65، 66، 67) من الدستور.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم دستورية نص المادة (48) من قانون العقوبات، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة .